فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} استئناف بياني لجملة: {كذلك يضرب الله الأمثال}، أي فائدة هذه الأمثال أن للذين استجابوا لربهم حين يضربها لهم الحسنى إلى آخره.
فمناسبته لما تقدم من التمثيلين أنهما عائدان إلى أحوال المسلمين والمشركين.
ففي ذكر هذه الجملة زيادة تنبيه للتمثيل وللغرض منه مع ما في ذلك من جزاء الفريقين لأن المؤمنين استجابوا لله بما عقلوا الأمثال فجوزوا بالحسنى، وأما المشركون فأعرضوا ولم يعقلوا الأمثال، قال تعالى: {وما يعقلها إلا العالمون} [سورة العنكبوت: 43]، فكان جزاؤهم عذابًا عظيمًا وهو سوء الحساب الذي عاقبته المصير إلى جهنم.
فمعنى {استجابوا لربهم} استجابوا لدعوته بما تضمنه المثل السابق وغيره.
وقوله: {الحسنى} مبتدأ و: {للذين استجابوا} خبره.
وفي العدول إلى الموصولين وصلتيهما في قوله: {للذين استجابوا}: {والذين لم يستجيبوا} إيماء إلى أن الصلتين سببان لما حصل للفريقين.
وتقديم المسند في قوله: {للذين استجابوا لربهم الحسنى} لأنه الأهم لأن الغرض التنويه بشأن الذين استجابوا مع جعل الحسنى في مرتبة المسند إليه، وفي ذلك تنويه بها أيضًا.
وأما الخبر عن وعيد الذين لم يستجيبوا فقد أجري على أصل نظم الكلام في التقديم والتأخير لقلة الاكتراث بهم.
وتقدم نظير قوله: {لو أن لهم ما في الأرض جميعًا} في سورة العقود [36].
وأتي باسم الإشارة في {أولئك لهم سوء الحساب} للتنبيه على أنهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة من الخبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الصلة.
و{سوء الحساب} ما يحف بالحساب من إغلاظ وإهانة للمحساب.
وأما أصل الحساب فهو حسن لأنه عدل. اهـ.

.قال الشعراوي:

{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى}
والذين يستجيبون للرب الذي خلق من عَدَم، وأوجد لهم مُقومِّات الحياة واستبقاء النوع بالزواج والتكاثر؛ فإذا دعاهم لشيء فليعلموا أن ما يطلبه منهم مُتمِّم لصالحهم؛ الذي بدأه بإيجاد كل شيء لهم من البداية.
وهؤلاء الذين يستجيبون لهم الحُسْنى؛ فسبحانه جعل الدنيا مزرعة للآخرة، وأنت في الدنيا مَوْكُول لقدرتك على الأَخْذ بالأسباب؛ ولكنك في الآخرة مَوْكُول إلى المُسبِّب.
ففي الدنيا أنت تبذُر وتحرُث وتروي وتحصد، وقد تختلف حياتك شَظفًا وتَرفًا بقدرتك على الأسباب.
فإذا استجبْتَ لله واتبعتَ منهجه؛ فأنت تنتقل إلى حياة أخرى؛ تحيا فيها مع المسبب؛ لا الأسباب؛ فإذا خطر ببالك الشيء تَجِدْهُ أمامك؛ لأنك في الحياة الأخرى لا يكِلك الله إلى الأسباب، بل أنت مَوْكُول لذات الله، والموكول إلى الذَّاتِ بَاقٍ ببقاء الذات.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ...} [النساء: 175]
وبعض المُفسِّرين يقولون إنها الجنة وأقول: هذا تفسير مقبول؛ لأن الجنة من رحمة الله؛ ولكن الجنة باقية بإبقاء الله لها؛ ولكن رحمة الله باقية ببقاء الله.
وهنا يقول الحق سبحانه: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى...} [الرعد: 18]
ويقول تعالى في آية أخرى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ...} [يونس: 26]
والحسنى هي الأمر الأحسن؛ وسبحانه خلق لك في الدنيا الأسباب التي تكدح فيها؛ ولكنك في الآخرة تحيا بكل ما تتمنى دون كدح، وهذا هو الحسن.
وهَبْ أن الدنيا ارتقتْ؛ والذين يسافرون إلى الدول المُتقدمة؛ وينزلون في الفنادق الفاخرة؛ يُقال لهم اضغط على هذا الزر تنزل لك القهوة؛ والزِّر الآخر ينزل لك الشاي.
وكل شيء يمكن أن تحصل عليه فَوْر أن تطلبه من المطعم حيث يُعدُّه لك آخرون؛ ولكن مهما ارتقتْ الدنيا فلن تصل إلى أنْ يأتي لك ما يمرُّ على خاطرك فَوْر أنْ تتمناه؛ وهذا لن يحدث إلا في الآخرة.
وكلمة: {الحسنى} مُؤنَّثة وأفعل تفضيل؛ ويُقَال حسنة وحُسْنى؛ وفي المذكر يُقَال حسن وأحسن. والمقابل لمن لم يستجيبوا معروف.
والحق سبحانه يقول هنا: {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ...} [الرعد: 18]
أي: يقول خذوا ما أملك كله واعتقوني، لكن لا يُستجاب له.
ويقول الحق سبحانه: {... أولئك لَهُمْ سواء الحساب وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} [الرعد: 18]
لأن الحساب يترتب عليه مرة خَيْر؛ ويترتب عليه مرة أخرى شَرٌّ؛ وجاء الحق سبحانه بكلمة: {وَبِئْسَ المهاد} [الرعد: 18]
هنا؛ لأن الواحد من هؤلاء والعياذ بالله لن يستطيع أن يتصرف لحظة وَضْعه في النار، كما لا يستطيع الطفل الوليد أن يتصرف في مِهَاده؛ ومن المؤكد أن النار بِئْس المهاد. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {المر} قال ابن عباس: أنا الله أعلم وأرى، ويقال: معناه أنا الله أرى ما تحت العرش إلى الثرى، وما بينهما.
ويقال: أنا الله أعلم، وأرى ما لا يعلم الخلق، وما لا يرى.
ويقال: أنا الله أعلم، وأرى ما يعملون، ويقولون.
ويقال: هذا قسم أقسم الله به: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} قال قتادة: يعني: التي قبل القرآن.
يعني: التوراة والإنجيل: {وَالَّذِي} يعني: القرآن: {أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ الْحَقُّ} يعني: الكتب التي قبل القرآن، والقرآن الذي أُنزل إليك، كله من الله تعالى، وهو الحق، والإيمان به واجب.
وقال ابن عباس: {تلك آيات الكتاب}، يعني: تلك آيات القرآن.
ومعناه: هذه آيات الكتاب.
والذي أُنزل من ربك هو الحق يعني: القرآن.
ويقال: {تلك آيات الكتاب} يعني: الأحكام، والحجج، والدلائل: {والذي أنزل إليك} يعني: جبريل، ليقرأ عليك من ربك الحق.
يعني: اتبعوه، واعملوا به.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} يعني: أهل مكة: {لاَ يُؤْمِنُونَ} يعني: لا يصدقون أنه من الله تعالى فلما ذكر أنهم لا يؤمنون بيّن في الدلائل التي توجب التصديق بالخالق.
ثم قال تعالى: {الله الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها} يعني: ليس لها عمد ترونها.
وهذا قول الحسن وقتادة، رفعها الله تعالى بغير عمد وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير، معناه: لها عمد، ولكن لا ترونها.
يعني: أنتم ترونها بغير عمد في المشاهدة، ولكن لها عمد.
وكلا التفسيرين معناهما واحد.
لأن من قال: إن لها عمدًا، ولكن لا ترونها، يقول: العمد هو قدرة الله تعالى التي تمسك السموات والأرض.
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال ابن عباس: كان فوق العرش حين خلق السموات والأرض، وقد ذكرناه من قبل: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} يعني: ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل، ذلك لبني آدم: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى} يقول: يسير إلى وقت معلوم لا يجاوزه، وللشمس والقمر منازل، كل واحد منهما يغرب في كل ليلة في منزل ويطلع في منزل، حتى ينتهي إلى أقصى منازله: {يُدَبِّرُ الأمْرَ} يعني: يقضي القضاء، ويبعث الملائكة بالوحي، والتنزيل: {يُفَصِّلُ الآيَاتِ} يقول: يبيّن العلامات في القرآن: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} يعني: تصدقون بالبعث.
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ} يعني: بسط الأرض من تحت الكعبة على الماء.
وكانت تكفي بأهلها، كما تكفي السفينة، فأرساها الله بالجبال، وهو قوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} يعني: الجبال الثوابت من فوقها: {وَأَنْهَارًا} يعني: خلق في الأرض أنهارًا: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} يعني: خلق فيها من ألوان الثمرات: {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} يعني: خلق من كل شيء لونين من الثمار، حلوًا وحامضًا.
ومن الحيوان ذكرًا وأنثى.
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} يعني: يعلو الليل على النهار، ويعلو النهار على الليل، واقتصر بذكر أحدهما، إذا كان في الكلام دليل عليه.
قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، في رواية أبي بكر: {يُغَشِّي} بنصب الغين، وتشديد الشين.
وقرأ الباقون: بالجزم والتخفيف.
ثم بيّن أن ما ذكر من هذه الأشياء، فيه برهان وعلامات لمن تفكر فيها فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} يعني: فيما ذكر من صنعه: {لآيَاتٍ} يعني: لعبرات: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في اختلاف الليل والنهار، فيوحّدونه.
ثم بيّن أن في الأرض علامات كثيرة، ودلائل كثيرة لوحدانيته، لمن له عقل سليم فقال تعالى: {وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات} يعني: بالقطع الأرض السبخة، والأرض العذبة.
{متجاورات} يعني: ملتزقات، متدانيات، قريبة بعضها من بعض، فتكون أرض سبخة، وتكون إلى جنبها أرض طيبة جيدة.
وقال قتادة: {قِطَعٌ متجاورات} أي: قرى متجاورات.
ويقال: العمران، والخراب، والقرى والمغاور.
{وجنات مّنْ أعناب} يعني: الكروم: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صنوان وَغَيْرُ صنوان} قرأ بعضهم: بضم الصاد.
وقراءة العامة: بالكسر.
وهما لغتان ومعناهما واحد.
قال مجاهد وقتادة: الصنوان النخلة التي في أصلها نخلتان، وثلاث أصلهن واحدة.
وقال الضحاك: يعني: النخل المتفرق والمجتمع ويقال: {صنوان} النخلة التي بجنبها نخلات وغير صنوان يعني: المنفردة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لاَ تُؤْذُونِي فِي العَبَّاسِ، فإِنَّهُ بَقِيةُ آبَائي، وإنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ». قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم في رواية حفص: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صنوان} كلها بالضم على معنى الابتداء. وقرأ الباقون: كلها بالكسر على معنى النعت للجنات.
ويقال: على وجه المجاورة.
لأن الزرع لا يكون في الجنات.
ثم قال: {يسقى بِمَاء واحد وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ في الاكل} يعني: الماء، والتراب واحد.
وتكون الثمار مختلفة في ألوانها، وطعومها، لأنه لو كان ظهور الثمار بالماء والتراب، لوجب في القياس، أن لا تختلف الألوان والطعوم، ولا يقع التفاضل في الجنس الواحد إذا ثبت في مغرس واحد، وسقي بماء واحد، ولكنه صنع اللطيف الخبير.
وقال مجاهد: هذا مثل لبني آدم، أصلهم من أب واحد، ومنهم صالح، ومنهم خبيث.
ثم قال تعالى: {إِنَّ في ذَلِكَ} يعني: فيما ذكر: {لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أنه من الله تعالى.
قرأ حمزة والكسائي: {يسقى} وَ: {يُفَضَّلُ} بالياء وقرأ عاصم وابن عامر في إحدى الروايتين: {صنوان يسقى} بالياء بلفظ التذكير،: {وَنُفَضّلُ} بالنون.
وقرأ الباقون: تُسْقَى بالتاء: {وَنُفَضّلُ} بالنون.
ثم قال تعالى: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} قال الكلبي: يعني: إن تعجب من تكذيب أهل مكة لك، وكفرهم بالله،: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} يقول: أعجب من ذلك قولهم.
{أَءذَا كُنَّا تُرَابًا} وقال مقاتل: {وَإِن تَعْجَبْ} مما أوحينا إليك من القرآن، تعجب.
قولهم: {أَءذَا كُنَّا تُرَابًا}: {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} إكذابًا منهم بالبعث.
قرأ الكسائي: {أَءذَا} بهمزتين على وجه الاستفهام،: {أَنَاْ لَفِى خَلْقٍ} بهمزة واحدة.
وقرأ عاصم وحمزة كليهما: بهمزتين.
وقرأ أبو عمرو: {آيِذَا} بهمزة واحدة مع المد، وكذلك في قوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا} بالمد.
وقرأ ابن كثير: {أَيِذَا} بالياء، وكذلك: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا}، وقرأ ابن عامر: {أَن كُنَّا} بهمزة واحدة بغير استفهام،: {أَيُّنَا} بالهمزة والمد.
قال: لأنهم لم يشكوا في الموت، وإنما شكوا في البعث، فينبغي أن يكون الاستفهام في الثاني دون الأول.